بيتزا وهامبورغر بالبَهارات

قصة قصيرة

كان طعم البيتزا والهامبورغر في محل "لحوم وبهارات" في حي الصفصافة القريب من الحراش متميزا وفاتحا للشهية مما جعلني أقرر أن أتغدى عنده طيلة العام. عرفت أن صاحبه كان يعمل في أحد المطاعم الهندية في فرنسا، وتعلم استخدام بهارات الشرق الأقصى التي تجعل للأطعمة نكهة فريدة من نوعها. عينت حديثا أستاذا في ثانوية ليس فيها مطعم، وتقع في حي الصفصافة القريب من الحراش. لحسن حظي كان هذا المحل نظيفا ويقصده الزبائن من كل مكان. أتناول القهوة بعد الغداء في المقهى المجاور للمحل وصاحبهما واحد هو السيد سليم "البوزلوف" وهو شاب وسيم في منتصف الثلاثينات. لا أعرف لقبه الحقيقي فالناس ينادونه هكذا لأن أباه – كما قيل لي – كان يقدم في هذا المحل لحمة الراس "البوزلوف"، وكان الكبار والصغار يدعونه عمي رشيد "البوزلوف" لأنه يقدم أفضل لحم راس مشوي في العاصمة بسعر يناسب جيوب ذوي الدخل المحدود. كان معروفا بنظافته وأمانته وقناعته لذلك لم يكن غريبا حين عاد ابنه من فرنسا بعد وفاته وحل محله مغيرا نشاطه إلى الأكل السريع أن يحافظ على زبائن والده وأن يضيف إليهم زبائن جدد نتيجة لاستخدامه خلطة خاصة من البهارات المتنوعة الطبيعية والصناعية بحذق ومهارة في وجباته، لم يستطع أحد فك شفرتها .

يجلس سليم أحيانا معنا في المقهى ويعطي آراءه في مشاكل الحي. كان معروفا بكرهه للصينيين الذين يعملون في مشروع بناء قريب من الحي. وهو يحذر دائما من غزوهم للعاصمة ويردد بعض مقولات الأوروبيين عن سوء بضائعهم التي لا يمكن أن تقارن بالمنتوجات الأوربية عموما والفرنسية والألمانية خصوصا.

تصادف أن بدأ الأستاذ مبروك أستاذ اللغة العربية في الثانوية يتردد على المحل لتناول وجبة الغداء بعد وفاة زوجته. كان في التاسعة والخمسين قريبا من التقاعد وولداه يعملان مهندسي بترول في الصحراء وابنته متزوجة في وهران. كان سكان الحي يحبونه فقد علم كثيرا منهم وأولادهم الآن يحبونه أيضا. هو الأستاذ الوحيد في الثانوية الذي لم يضرب عن العمل ولو ساعة واحدة وكان يقول: " أنا لا أعاقب أولادي نكاية في الحكومة"، وهو ما سبب له كره زملائه – وأنا منهم – لأننا اعتبرناه خائنا للمجموعة وللعمل النقابي. وكان موقفه من إضراب الأطباء مدة ثلاثة أشهر مشابها واتهمهم بتجاهل أخلاقيات هذه المهنة النبيلة ومعاقبة أفراد الشعب البسطاء الذين حرموا من الخدمات الطبية. ولهذا غضب عليه أطباء مستوصف الحي واتهموه بالعمالة للحكومة.

بدأ سليم كعادته في مهاجمة الصينيين لكنه فوجئ بتصدي الأستاذ مبروك له مدافعا عنهم. قال مبروك:

-                        لولا البضائع الصينية لما حلم الفقراء بامتلاك الآلات الإلكترونية وحتى الألبسة والأدوات المنزلية لأن أسعار البضائع الأوربية مرتفعة للغاية".

-                        لكنها بضائع "تايوان"، تفسد بسرعة.

-                        من قال ذلك؟ لدي حاسوب أستعمله منذ عشر سنوات، وهاتف محمول منذ خمس سنوات دون أي مشكلة وبدلتي هذه التي ألبسها الآن صينية أيضا وأنتم ترونها في حالة جيدة.

فوجئ سليم بجواب مبروك فلم يكن يتوقع أن يعارضه أحد فأخذ يعزف على نغمة استيراد العمالة الصينية والمصرية رغم تفشي البطالة في الجزائر وينعتهم بالغرباء. أجابه مبروك:

-                        لو كانت العمالة الجزائرية كافية لما لجأت الشركات إلى الاستعانة بالعمال الصينيين والمصريين. الشركات دائما تبحث عن العمال المؤهلين والمنضبطين، وتتحاشى الكسولين والذين يلجؤون إلى التمرد والإضراب وهي لا تفرق في ذلك بين جنسية وأخرى حيث تعيد العمال غير المنضبطين إلى بلدانهم. والعمال الجزائريون المشهود لهم بالكفاءة والانضباط لم يتعرضوا للبطالة أبدا.

سكت سليم على مضض وأخذ يتحين الفرصة للتخلص من هذا الذي بدأ أهل الحي يستمعون إليه ويقتنعون بما يقول. حتى أن أحد الشيوخ عبر عن رأيهم بقوله:

-                        كان الشعب الجزائري دائما مضيافا وهو يعتبر المصريين أشقاء والصينيين أصدقاء وكلاهما يساهم معنا في معركة البناء.

أتيحت لسليم الفرصة التي ينتظرها بعد مبارتي كرة القدم بين الجزائر ومصر في القاهرة وأم درمان. كان يدعو بقوة إلى قطع كل العلاقات مع مصر لأن المصريين شتموا شهداءنا وأحرقوا علمنا. قال:

-                        يجب أن نمنع دخول الكتب والأغاني والأفلام المصرية التي تفسد أولادنا، ونحذف من كتب المدرسة كل الأدباء المصريين.

لكن مبروك رد عليه بقوله:

-                        من شتم وأحرق هم مجموعة صغيرة من الرياضيين والإعلاميين لا تمثل شعب مصر الشقيق بأي حال من الأحوال.

كان دفاع مبروك عن المصريين القطرة التي أفاضت الكأس. وقف سليم في وجهه واتهمه بالخيانة، وتحمسنا نحن الشباب كلنا معه وعلى الخصوص نادل القهوة العوفي الذي هجم عليه وأراد أن يخرجه بالقوة من المقهى لكن الشيوخ منعوه. كانوا يقولون لنا إنهم يعرفون ما لا نعرفه عن العلاقة الاستراتيجية بين الجزائر ومصر وبين الشعبين الشقيقين والثورتين، لكنهم لم يستطيعوا كبت حماسنا. صفقنا لسليم طويلا حين قال لمبروك:

-                        لا نريد أن نراك هنا أبدا، فهذا المقهى للوطنيين الذين يحبون الجزائر وليس لمن يدافعون عن الغرباء.

ابتسم مبروك ولم يجب وخرج من المقهى وسط ارتياح الشباب وامتعاض الشيوخ. منذ ذلك اليوم أصبح سليم "البوزلوف" بطلا في نظرنا ورمزا للوطنية. كيف لا وهو يدافع عن كرامة الوطن وفوق ذلك، قد صبغ جدران محله بالعلم الوطني، وحين يغني معنا "الجزائر في قلبي" يحمر وجهه من الحماس والانفعال، ويعلو صوته الرخيم على كل الأصوات، وتكاد تدمع عيناه.

كان بائع السردين في اليوم التالي يقف قبالة مطعمه وهو ينادي على بضاعته. قال سليم لزبائنه الذين يتخاطفون قطع البيتزا والهامبورغر الساخنة:

-                        انظروا إلى بائع السردين! ألا تلاحظون شيئا؟

-                        "ماذا نلاحظ؟" سأل أحد الزبائن.

قال العوفي الذي جاء من المقهى ليأخذ قطعة بيتزا إلى أحد الزبائن:

-                        كان قطط الحي يتجمعون حواليه فيرمي لهم أحيانا بعض الحبات. أين اختفت قطط الحي؟

-                        "هذا صحيح، حتى عندك في المحل كانت القطط تحوم حول اللحم. أين هي الآن؟". قال الزبون موجها الكلام لسليم.

-                        قلت لكم إن الصينيين هم أصل البلاء فلم تصدقوني.

-                        "ولكن ما علاقة الصينيين بالقطط؟" سأل الزبون.

أجابه العوفي: - "ألا تعرف أنهم يأكلون القطط، وأنهم السبب في اختفائها؟

قال الزبون: - سمعت ذلك من قبل ولم أصدقه.

علق سليم بقوله: - بل صدقه وأمامك أكبر برهان.

في تلك اللحظة توقفت سيارة حكومية نزل منها مفتش التموين ومعه ضابط شرطة وعونا أمن، ودخلوا إلى المطبخ ثم خرجوا وهم يحملون بعض قطع اللحم والعظم. خاطب مفتش التموين الزبائن بقوله:

-                        توقفوا ياسادة عن الطعام.

سأله أحد الزبائن: - لماذا؟ ماذا وجدتم؟

أشار مفتش التموين إلى القطع التي في يده قائلا:

-                        لحم حمير ولحم قطط. من منكم اسمه العوفي؟

أفرغ زبون ما في جوفه على المائدة بينما سقطت قطع الهامبورغر والبيتزا من أيدي الزبائن، أما العوفي فاختفى عن الأنظار. وأما سليم فأمسك به أعوان الأمن ووضعوه في السيارة.  سأل أحدهم المفتش:

-       كيف عرفتم؟

-       هناك مواطن رأى العوفي في الليل يحمل كيسا ويضع فيه قطة ثم حمله إلى هذا المحل.

تساءلت متعجبا: "كيف لم نحس بالطعم؟"

أجابني الزبون الذي أفرغ جوفه للتو، بمرارة : "من كثرة البهارات".

                                                      عبد الله خمّار

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت هذه القصة في جريدة "الأحداث" اليومية في العدد رقم 2424 يوم

الاثنين 26/ 04 / 2010.